يوميا لكل محامين مصر مع صباح القانون نناقش و نبحث سويا في تفسير معلومة قانونية واجب الإلمام بها، و ذلك من أجل النهوض بالمستوى العلمي و الثقافي لشباب المحامين







الخميس، 26 أغسطس 2010

البنك الإسلامي تاجر أم وسيط مالي

هذا السؤال كثير التردد في دوائر العمل المصرفي الإسلامي ، وقبل محاولة الإجابة عنه أرى من المناسب البحث في الباعث على هذا السؤال لأن مثل هذا البحث سيساعدنا كثيرا في الإجابة. إن الباعث على هذا السؤال ليس حاجة التصور الشرعي للعمل المصرفي الإسلامي ، ولكنه امتداد للمناقشات التي تجري في دوائر المصارف غير الإسلامية حول العمل المصرفي الإسلامي ، وسبب ذلك أن النظام القانوني الوضعي يعتمد على تقسيم القوانين بحسب أولئك الذين يخضعون لأحكامها، فمثلا هناك القانون التجاري وهو قانون التجار ، وهناك قانون المصارف وهو ينطبق فقط على مؤسسات الوساطة المالية وهناك قانون العمل ولا تسري أحكامه إلا على من ينطبق عليه تعريف العامل ... الخ .


وفي كثير من الأحيان يجيز القانون التجاري للتجار ممارسة تصرفات ونشاطات لا يجيزها لسواهم وهم يتمتعون بها لمجرد أنهم تجار ، ويمنع سواهم من ممارسة نفس ذلك العمل (فمثلا موظف الخدمة المدنية ممنوع من ممارسة التجارة) . ولذلك جرى العرف والقانون على حصر نشاط البنوك التجارية في الوساطة المالية بعيدا عن التجارة ، كما أن القوانين التجارية قامت على حصر نشاط التجار في التجارة بعيدا عن عمل المصارف وعن الوساطة المالية . ومن هنا جاء التساؤل التالي ...


هل المصرف الإسلامي تاجر أم وسيط مالي ؟


فإذا نظرنا إلى المسألة من المنظور الإسلامي ، ومن منطلق الشريعة نجد أن الأحكام الشرعية في العبادات وفي المعاملات ليس فيها جزء مخصوص للتجار وآخر للوسطاء الماليين ولكنها تتعلق بالمكلفين (الإسلام ، العقل ، البلوغ ... الخ) ومن ثم فليس في الشريعة "مكلف" اسمه وسيط مالي له أحكام خاصة به، كما أنه ليس فيها تاجر يختلف في أحكامه عن بقية المكلفين لمجرد أنه كذلك، فالعلاقات بين الناس التي يترتب عليها التزامات وحقوق ينظر إليها من منظار التكليف وما كان محرما على أي واحد منهم فهو محرم على الجميع لا يخرجه من الحرمة أن الممارس له تاجر أو موظف أو وسيط مالي . والمباح مباح للجميع تجارا كانوا أم غير تجار . وكما أن القوانين الوضعية تسأل هل أنت تاجر أم وسيط مالي ، فهي تسأل هل أنت تاجر أم موظف لمن كان يبيع ويشتري وهو في سلك الخدمة المدنية كما أسلفنا ، ولكن السؤال لا يترتب عليه حل ولا حرمة من ناحية الشرعية . وكذلك الحال في الأول ، فلماذا نسأل إذن "هل أنت وسيط مالي أم تاجر" الجواب عن ذلك : لأن هذا السؤال قانوني وليس شرعي . لا ننكر أن لولي الأمر أن يصدر من اللوائح والتعليمات ما يحقق الاستقرار في المعاملات بين الناس وينظم حياتهم الاقتصادية والتي ربما كان فيها منع لمباح لتحقيق مصلحة يراها ولي الأمر أو حصر نشاط معين في فئة محددة. لكن تلك مسألة أخرى .


على ذلك فإن إثبات أن المصرف الإسلامي "تاجر" لا يترتب عليه حكم شرعي وكذلك الحال في إثبات أنه وسيط مالي . إن الحكم على تصرفاته وجواز نشاطه معتمد على النظر في هذه النشاطات للتأكد أنها خلو من المحرمات ومن مفسدات العقود .


نستطيع أن نقرر إذن أن السؤال ليس ذا بال من الناحية الشرعية . هذا لا يعني أنه غير مهم من الناحية العملية لكن لابد من التأكد أننا ننظر إليه من خلال المنظور المناسب .


مبررات التفريق بين عمل الوسيط المالي وعمل التاجر


اعتمدت فكرة المصرف التجاري التقليدي على التوسط بين المدخرين (فئة الفائض) والمستثمرين (فئة العجز) بالاقتراض من الطرف الأول ثم الإقراض إلى الطرف الثاني. هذه الوساطة الغرض منها "فصل" المخاطر بإدخال المؤسسة المصرفية بين أرباب الأموال ومستخدمي هذه الأموال. فالمدخر لا يهتم بالمخاطر في النشاط الذي تستخدم الأموال فيه بل ينظر إلى المخاطر التي يتضمنها التعامل مع هذا البنك ، فيقولون عن المدخر أنه "يأخذ مخاطرة البنك" . أما مخاطرة المستثمر (أي مستخدم الأموال) فيتحملها البنك ، ولذلك يقولون إن البنك "يأخذ مخاطرة العميل". ومن ثم اتجهت القوانين المصرفية إلى ضرورة أن يتوفر المصرف على قدرة مالية تمكنه من الوفاء بالتزاماته تجاه المودعين حتى لو لم يف المستثمرون بالتزامهم تجاهه لانفصال الأمرين عن بعضهما البعض ، ولذلك فإن فكرة المخاطرة في العمل المصرفي التقليدي ، إنما تدور حول هذه المسألة وهو المواءمة بين الأصول والخصوم ، أي موارد البنك ، وأهمها الودائع واستخدامات أمواله وأهمها القروض . يعد المصرف في خطر جسيم مثلا إذا تقبل ودائع بفائدة ثابتة وأعطى قروضا بفائدة متغيرة لأن المخاطر غير متوائمة .


إن مواءمة المخاطر في جانبي الأصول والخصوم هي أهم عمل تقوم به إدارة أي مصرف ، والفرق بين الإدارة الناجحة والإدارة الفاشلة هو في مدى القدرة على "إدارة المخاطر" .


أما فكرة المصرف الإسلامي فهي قائمة على أساس مختلف تماما . ذلك أن أرباب الأموال (المودعين) هم الذين يتحملون مباشرة مخاطر المستثمرين . ولذلك فإن عمل البنك الإسلامي مختلف تمام الاختلاف ، فهو لا يقوم على تحمل المؤسسة المصرفية لمخاطر مستخدمي الأموال ، بل هي وسيط يقوم أرباب الأموال من خلاله بتحمل مخاطر الاستثمار مباشرة .


إن للتفريق بين عمل التجار وعمل الوساطة المالية في النموذج المصرفي التقليدي أسباب وجيهة ومبررات منطقية ، لأن المواءمة بين الأصول والخصوم لا تتأتى إلا إذا تساوى مستوى المخاطرة في الجانبين . فإذا حصل المصرف على ودائع قصيرة الأجل ، فإن استخدامها في التجارة، هو نشاط متدني السيولة بطبيعته ، فيه تحمل للمصرف لقدر من المخاطر أكبر مما يسمح به مطلب استقرار العمل المصرفي. ومن ثم لزم منع البنوك من ممارسة التجارة .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق